يوميات بغي في مدينة من مدن الجنوب

“أربعون دينارا هي كل ما أحتاجه اليوم ” تفكر مريم  بصمت و هي تترجل من التاكسي قرب ذلك النزل المتوسط  النوع ذي النجمتين تتلفت حولها بحذر قط بري وهو يفر بفريسته الهزيلة من عيون متربصيه , هي مثل ذلك القط تهرب بلقمة عيشها من عيون المتربصين اكلي لحوم النساء مثلها في مجتمعات الجنوب , تدلف بخفة الى عطفة جانبية , الى ما يترأى للناظر أنه جدار صغير و ماهو بجدار , بل هو ساتر يخفي وراءه بابا حال لونه لا يحمل عنوانا , باب يعرفه الجميع في مدينة الجنوب تلك , باب المبغى العمومي .

“أربعون  دينارا تساوي عشر  ضجعات ” تواصل التفكير و هي تومئ برأسها للبطرونة العجوز في مظهرها و مخبرها , “ربي ينوب بالقسم ” لاحقتها نبرة العجوز الساخرة , مضت أيام لم تكد تحصل فيها  على عشرة دنانير على بعضها  , لا لقصور في جمال تقاسيمها فهي كما يشهد زبائنها ممتلئة العود ريانة الوجه  مكورة التضاريس , لكن الحظ تخلى عنها مؤخرا بل لعله تخلى عن الجميع في مدينة نسيها حتى الله فما بالك بالحكومة  و في وقت أصبحت فيه عشر ضجعات تساوي ثمن يوم من الخبز لها و لطفل مازال في سنوات عمره الأولى .

أجالت نظرها في المكان كالعادة ترقب حركية الزبائن , مازال الوقت مبكرا , و طالبو اللذة عادة يتوافدون أول الليل , لكن حظها العاثر يتدخل مرة أخرى و يقرر ان تبدأ مناوبتها في الثانية ظهرا حتى العاشرة ليلا , ما يمنحها فقط أربع ساعات من العمل وقت الذروة قبل أن تعود لمنزلها و تستلم زميلة أخرى مكانها …

المبغى هادئ في هذا الوقت , لا تزال تبدو عليه علامات النوم رغم فتح عاهراته لأفخاذهن على مدار الأربع و العشرين ساعة سبعة أيام في الاسبوع , لكنه يخلو الأن من الزبائن فاستغلت العاملات فيه الفرصة للدردشة قليلا قبل العودة الى “فترينة” العرض , كن خمس بنات موجودات الأن في العمل , تنوعت ملابس كل منهن حسب ذوق الزبائن و ما تسمح به “العرفة ” و ان كانت كلها ملابس داخلية من قطعتين أو قميص نوم قصير يشف عن ملامح اللحم الذي تحته بينما تختفي ملامح الوجه عادة تحت طبقة من مساحيق التجميل كل على طريقتها , و لكنهن الأن و قد تجمعن في ما يشبه ردهة للمعيشة و ان هي في الحقيقة قاعة انتظار يجلس فيها الزبن في انتظار فراغ تلك المومس أو تلك , بدت الفتيات أشبه ما يكن بممثلات في مسرح من الدرجة الثالثة و قد جلسن في الكواليس في انتظار بدأ العرض التالي لمسرحية الجنس  والعري اليومية , خلعن ابتساماتهن و نظرات الاغراء السافرة و تلفعت اثنتان منهن بأردية طويلة بالية بعض الشيء اتقاءا لبرد ديسمبر الجاف جفاف حدقات الناس في نظرتهم للمومسات في تلك المدينة الجنوبية المنسية . جلست واحدة منهن تضم ساقيها بقوة  لتعطي فخذيها فترة من الراحة بعد عمل ليلة طويلة , فيما أخذت بقية  النساء بالاستعداد للخروج في انتظار وصول بقية الزميلات للحلول محلهن في العمل .

بوجهها الخالي من المساحيق و ملابسها البسيطة “على قد الحال” , لم تبدو مريم , كغيرها من المومسات في ذلك المكان , بدت أشبه بنساء مدينتها حالها كحالهن , تعمل بجهد لتؤمن قوت يومها و ان يكن من مني الرجال الذين يفرغونه يوميا على أرض الغرفة الباردة و يدفعون ثمنه اثني عشر دينارا عن كل مرة , تنال هي الثلث منها بينما يذهب الباقي الي جيب “العرفة” و أعوانها القائمين على حراسة المبغى و الذود عن  العاملات فيه . جلست مريم تراقب عملية تحول زميلاتها الى نساء عاديات مرة اخرى و هن يزلن اثار العمل بجهد , لتشابه وجوههن وجهها في الأخير, وجه مكدود تظهر عليه بوضوح اثار الزمن القحط الذي رمى بهن في مزبلة المجتمع , و ان تكن مزبلة حلوة الرائحة  وفيرة اللحم  و الدسم لطالبي اللذة  مسبقة الدفع .

فطنت مريم الى نظرات “العرفة ” الغاضبة من تجمعهن الكسول , فتوكلت على خالقها في سرها و لعنت الشغل و ساعته ثم نهضت تلبس ثوبها المسرحي المبهرج بالالوان ..فيما أطلت رأس أول زبون من الباب المتهالك و تعالى صوت “العرفة “مرحبا بالنقود القليلة القادمة  داعية اياه للدخول و أن البنات كلهن تحت امره يختار منهن  من يشاء   “ان كل بناتها زين و عين و نظافة و لطافة” فيما وقفت الفتيات بابتسامات واسعة  كل تحاول أن تجذب الزبون القادم الى غرفتها , بينما أسرعت مريم الى غرفة صغيرة ملحقة تغير ملابس المجتمع الجنوبي المحافظ بأخرى تليق بالعمل  , داعية في سرها أن يكون الزبون الجديد من نصيبها …

بتوقيت تونس العاصمة

فاتن عمري

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*